كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما من عصاني منهم فأفوض أمره إليك:
{ومن عصاني فإنك غفور رحيم}..
وفي هذا تبدو سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم؛ فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه، ولا يستعجل لهم العذاب؛ بل لا يذكر العذاب، إنما يكلهم إلى غفران الله ورحمته. ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة؛ وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية؛ فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم!
ويمضي إبراهيم في دعائه يذكر إسكانه لبعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور للبيت المحرم، ويذكر الوظيفة التي اسكنهم في هذا القفر الجدب ليقوموا بها:
{ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم}..
لماذا؟
{ربنا ليقيموا الصلاة}..
فهذا هو الذي من أجله أسكنهم هناك، وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان.
{فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}..
وفي التعبير رقة ورفرفة، تصور القلوب رفافة مجنحة، وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك الوادي الجديب. إنه تعبير نديّ يندِّي الجدب برقة القلوب..
{وارزقهم من الثمرات}..
عن طريق تلك القلوب التي ترف عليهم من كل فج.. لماذا؟ أليأكلوا ويطعموا ويستمتعوا.؟ نعم! ولكن لينشأ عن ذلك ما يرجوه إبراهيم الشكور:
{لعلهم يشكرون}.
وهكذا يبرز السياق هدف السكنى بجوار البيت الحرام.
إنه إقامة الصلاة على أصولها كاملة لله. ويبرز هدف الدعاء برفرفة القلوب وهويّها إلى أهل البيت ورزقهم من ثمرات الأرض.. إنه شكر الله المنعم الوهاب.
وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة واضحة في موقف قريش جيرة البيت المحرم.. فلا صلاة قائمة لله، ولا شكر بعد استجابة الدعاء، وهويّ القلوب والثمرات!
ويعقب إبراهيم على دعاء الله لذريته الساكنة بجوار بيته المحرم لتقيم الصلاة وتشكر الله.. يعقب على الدعاء بتسجيله لعلم الله الذي يطلع على ما في قلوبهم من توجه وشكر ودعاء. فليس القصد هو المظاهرات والأدعية والتصدية والمكاء. إنما هو توجه القلب إلى الله الذي يعلم السر والجهر ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء:
{ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء}..
ويذكر إبراهيم نعمة الله عليه من قبل؛ فيلهج لسانه بالحمد والشكر شأن العبد الصالح يذكر فيشكر:
{الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء}..
وهبة الذرية على الكبر أوقع في النفس. فالذرية امتداد. وما أجل الإنعام به عند شعور الفرد بقرب النهاية، وحاجته النفسية الفطرية إلى الامتداد. وإن إبراهيم ليحمد الله، ويطمع في رحمته:
{إن ربي لسميع الدعاء}..
ويعقب على الشكر بدعاء الله أن يجعله مديمًا للشكر. الشكر بالعبادة والطاعة فيعلن بهذا تصميمه على العبادة وخوفه أن يعوقه عنها عائق، أو يصرفه عنها صارف، ويستعين الله على إنفاذ عزيمته وقبول دعائه:
{رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء}.
وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة مرة أخرى في موقف جيرة البيت من قريش. وهذا إبراهيم يجعل عون الله له على إقامة الصلاة رجاء يرجوه، ويدعو الله ليوفقه إليه. وهم ينأون عنها ويعرضون، ويكذبون الرسول الذي يذكرهم بما كان إبراهيم يدعو الله أن يعينه عليه هو وبنيه من بعده!
ويختم إبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين جميعًا، يوم يقوم الحساب، فلا ينفع إنسانًا إلا عمله؛ ثم مغفرة الله في تقصيره:
{ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}..
وينتهي المشهد الطويل: مشهد الدعاء الخاشع الضارع. ومشهد تعداد النعم والشكر عليها.. في إيقاع موسيقي متموج رخي.. ينتهي بعد أن يخلع على الموقف كله ظلًا وديعًا لطيفًا، تهفو القلوب معه إلى جوار الله، وتذكر القلوب فيه نعم الله. ويرتسم إبراهيم أبو الأنبياء نموذجًا للعبد الصالح الذاكر الشاكر، كما ينبغي أن يكون عباد الله، الذين وجه الحديث إليهم قبيل هذا الدعاء..
ولا يفوتنا أن نلمح تكرار إبراهيم عليه السلام في كل فقرة من فقرات دعائه الخاشع المنيب لكلمة: {ربنا} أو {ربِّ}.
فإن لهجان لسانه بذكر ربوبية الله له ولبنيه من بعده ذات مغزى.. إنه لا يذكر الله سبحانه بصفة الألوهية، إنما يذكره بصفة الربوبية. فالألوهية قلما كانت موضع جدال في معظم الجاهليات- وبخاصة في الجاهلية العربية- إنما الذي كان دائمًا موضع جدل هو قضية الربوبية. قضية الدينونة في واقع الحياة الأرضية. وهي القضية العملية الواقعية المؤثرة في حياة الإنسان. والتي هي مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية وبين التوحيد والشرك في عالم الواقع.. فإما أن يدين الناس لله فيكون ربهم وإما أن يدينوا لغير الله فيكون غيره ربهم.. وهذا هو مفرق الطريق بين التوحيد والشرك وبين الإسلام والجاهلية في واقع الحياة. والقرآن وهو يعرض على مشركي العرب دعاء أبيهم إبراهيم والتركيز فيه على قضية الربوبية كان يلفتهم إلى ما هم فيه من مخالفة واضحة لمدلول هذا الدعاء!
ثم يكمل السياق الشوط مع {الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار}.. وهم ما يزالون بعد في ظلمهم لم يأخذهم العذاب. والذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {تمتعوا فإن مصيركم إلى النار}.. وأن ينصرف إلى عباد الله المؤمنين يأمرهم بالصلاة والإنفاق سرًا وعلانية {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال}..
يكمل السياق الشوط ليكشف عما أعد للكافرين بنعمة الله؛ ومتى يلقون مصيرهم المحتوم؛ وذلك في مشاهد متعاقبة من مشاهد القيامة، تزلزل الأقدام والقلوب:
{ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء}..
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحسب الله غافلًا عما يعمل الظالمون. ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون، ويسمع بوعيد الله، ثم لا يراه واقعًا بهم في هذه الحياة الدنيا. فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخير، التي لا إمهال بعدها. ولا فكاك منها. أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك. ثم يرسم مشهدًا للقوم في زحمة الهول.. مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء، ولا يلتفتون إلى شيء. رافعين رؤوسهم لا عن إرادة ولكنها مشدودة لا يمكلون لها حراكًا. يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب فلا يطرف ولا يرتد إليهم. وقلوبهم من الفزع خاوية خالية لا تضم شيئًا يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه، فهي هواء خواء..
هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه. حيث يقفون هذا الموقف، ويعانون هذا الرعب. الذي يرتسم من خلال المقاطع الأربعة مذهلًا آخذًا بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب:
{إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء}.
فالسرعة المهرولة المدفوعة، في الهيئة الشاخصة المكرهة المشدودة، مع القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي ومن كل إدراك.. كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار.
هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه، والذي ينتظرهم بعد الإمهال هناك. فأنذر الناس أنه إذا جاء فلا اعتذار يومئذ ولا فكاك.. وهنا يرسم مشهدًا آخر لليوم الرعيب المنظور: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال}.
أنذرهم يوم يأتيهم ذلك العذاب المرسوم آنفًا، فيتوجه الذين ظلموا يومئذ إلى الله بالرجاء، يقولون: {ربنا}.
الآن وقد كانوا يكفرون به من قبل ويجعلون له أندادًا!
{أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل}.
وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب. كأنهم ماثلون شاخصون يطلبون. وكأننا في الآخرة وقد انطوت الدنيا وما كان فيها. فها هو ذا الخطاب يوجه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب، والتذكير بما فرط منهم في تلك الحياة: {أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال}.
فكيف ترون الآن؟! زلتم يا ترى أم لم تزولوا؟! ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم مثلًا بارزًا للظالمين ومصيرهم المحتوم: {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال}.
فكان عجيبًا أن تروا مساكن الظالمين أمامكم، خالية منهم، وأنتم فيها خلفاء، ثم تقسمون مع ذلك: {ما لكم من زوال}!
وعند هذا التبكيت ينتهي المشهد، وندرك أين صاروا، وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الرجاء.
وإن هذا المثل ليتجدد في الحياة ويقع كل حين. فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم. وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم. ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبرون؛ ويسيرون حذوك النعل بالنعل سيرة الهالكين؛ فلا تهز وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها، والتي تتحدث عن تاريخ الهالكين، وتصور مصائرهم للناظرين. ثم يؤخذون إخذة الغابرين، ويلحقون بهم وتخلوا منهم الديار بعد حين!
ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك، إلى واقعهم الحاضر، وشدة مكرهم بالرسول والمؤمنين، وتدبيرهم الشر في كل نواحي الحياة. فيلقي في الروع أنهم مأخوذون إلى ذلك المصير، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير:
{وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم.. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}..
إن الله محيط بهم وبمكرهم، وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال، أثقل شيء وأصلب شيء، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال.
فإن مكرهم هذا ليس مجهولًا وليس خافيًا وليس بعيدًا عن متناول القدرة. بل إنه لحاضر {عند الله} يفعل به كيفما يشاء.
{فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام}..
فما لهذا المكر من أثر، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر:
{إن الله عزيز ذو انتقام}..
لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو.. وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر، فالظالم الماكر يستحق الانتقام، وهو بالقياس إلى الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم، تحقيقًا لعدل الله في الجزاء.
وسيكون ذلك لا محالة:
{يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات}..
ولا ندري نحن كيف يتم هذا، ولا طبيعة الأرض الجديدة وطبيعة السماوات، ولا مكانها؛ ولكن النص يلقي ظلال القدرة التي تبدل الأرض وتبدل السماوات؛ في مقابل المكر الذي مهما اشتد فهو ضئيل عاجز حسير.
وفجأة نرى ذلك قد تحقق:
{وبرزوا لله الواحد القهار}..
وأحسوا أنهم مكشوفون لا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق. ليسوا في دورهم وليسوا في قبورهم. إنما هم في العراء أمام الواحد القهار.. ولفظة {القهار} هنا تشترك في ظل التهديد بالقوة القاهرة التي لا يقف لها كيد الجبابرة. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.
ثم ها نحن أولاء أمام مشهد من مشاهد العذاب العنيف القاسي المذل، يناسب ذلك المكر وذلك الجبروت:
{وترى المجرمين يومئذ مقرّنين في الأصفاد سرابيلهم من قَطران وتَغشى وجوههم النار}..
فمشهد المجرمين: اثنين اثنين مقرونين في الوثاق، يمرون صفًا وراء صف.. مشهد مذل دال كذلك على قدرة القهار. ويضاف إلى قرنهم في الوثاق أن سرابيلهم وثيابهم من مادة شديدة القابلية للالتهاب، وهي في ذات الوقت قذرة سوادء.. {من قطران}.. ففيها الذل والتحقير، وفيها الإيحاء بشدة الاشتعال بمجرد قربهم من النار!
{وتغشى وجوههم النار}..
فهو مشهد العذاب المذل المتلظي المشتعل جزاء المكر والاستكبار..
{ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب}..
ولقد كسبوا المكر والظلم فجزاؤهم القهر والذل. إن الله سريع الحساب. فالسرعة في الحساب هنا تناسب المكر والتدبير الذي كانوا يحسبونه يحميهم ويخفيهم، ويعوق انتصار أحد عليهم. فها هم أولاء يجزون ما كسبوا ذلًا وألمًا وسرعة حساب!
وفي النهاية تختم السورة بمثل ما بدأت، ولكن في إعلان عام جهير الصوت، عالي الصدى، لتبليغ البشرية كلها في كل مكان:
{هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب}.
إن الغاية الأساسية من ذلك البلاغ وهذا الإنذار، هي أن يعلم الناس {أنما هو إله واحد}.
فهذه هي قاعدة دين الله التي يقوم عليها منهجه في الحياة.
وليس المقصود بطبيعة الحال مجرد العلم، إنما المقصود هو إقامة حياتهم على قاعدة هذا العلم.. المقصود هو الدينونة لله وحده، ما دام أنه لا إله غيره. فالإله هو الذي يستحق أن يكون ربًا أي حاكمًا وسيدًا ومتصرفًا ومشرعًا وموجهًا وقيام الحياة البشرية على هذه القاعدة يجعلها تختلف اختلافًا جوهريًا عن كل حياة تقوم على قاعدة ربوبية العباد للعباد أي حاكمية العباد للعباد ودينونة العباد للعباد وهو اختلاف يتناول الاعتقاد والتصور، ويتناول الشعائر والمناسك؛ كما يتناول الأخلاق والسلوك، والقيم والموازين؛ وكما يتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكل جانب من جوانب الحياة الفردية والجماعية على السواء.